بقلم نواف القنطار
كانت موسكو، حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، بوابة الاتحاد السوفييتي الوحيدة التي يُطل من خلالها على العالم، فعلى الرغم من وجود مطارات دولية كثيرة في معظم المدن الكبرى مثل كييف ولينينغراد وعواصم الجمهوريات السوفييتية الأخرى، إلا أن مطار ” شيريميتيفو ـ 2″ الذي يقع في شمال العاصمة كان يمثل المركز الوحيد ( أو الوحيد تقريباً) للسفر عبر الخطوط الجوية الدولية، أما المطارات الأخرى فكانت في معظمها مخصصة للرحلات الداخلية فقط. ولذلك كان يتعين على المسافر أن يغادر أراضي الاتحاد السوفييتي من مطار ” شيريميتيفو ـ 2″ بالتحديد، حتى لو كان يقطن في أقاصي البلاد، وكذلك الأمر بالنسبة للطلاب الأجانب في جمهوريات الاتحاد السوفييتي الراغبين بالسفر لقضاء الإجازة الصيفية في بلدانهم، أي أنه كان على الطلاب الذين يدرسون في مدينة أوديسا مثلاً، أن يسافروا بالطائرة أو القطار إلى موسكو، ثم التوجه إلى مطار ” شيريميتيفو ـ 2″ لمتابعة رحلتهم الطويلة والمرهقة إلى الوطن.
وفي الحقيقة، فإن في هذا الوصف تبسيطاً كبيراً، فالغالبية العظمى من هؤلاء الطلاب ( ومن بينهم الطلاب السوريون على سبيل المثال) كانوا يضطرون لقضاء بضعة أيام في موسكو قبل أن يتمكنوا من شراء تذكرة سفر، فأعداد الراغبين بالسفر في مثل هذا الوقت من السنة كثيرة جداً، بينما كان عدد الطائرات على العكس من ذلك تماماً.
أما في المطار نفسه، فكان يكفي للمرء أن ينظر إلى بوابات الخروج ليرى المسافرين إلى البلدان الأخرى وقد اصطفوا بهدوء في طابور واحد، بينما كانت بوابة الطائرة السورية ( على سبيل المثال) تشبه عش دبابير يحوم حول فريسة: كتلة بشرية كبيرة منتفخة، دائمة الحركة، لا أثر للدور والتنظيم فيها، وحقائب ضخمة كثيرة تعرقل المرور حتى يكاد المرء يعتقد أن كارثة حلّت في العالم وأن الناس تحاول الهروب من مصيرها المحتوم. ولا يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، بل كانت هناك كتلةٌ بشرية أخرى تسير بحركة عشوائية داخل صالة المطار نفسه وهي تلاحق مدير مكتب الشركة للحصول منه على تذكرة سفر أو التسجيل على لائحة الانتظار.
وقلما كنا نعود ( نحن أهل موسكو) من هذا المطار ـ بعد وداع صديق أو استقباله ـ من دون انطباعات سلبية تستفز الأعصاب، فكم كنا نرغب بالسفر مثل ” الأكابر”، على حد قول أحد الأصدقاء، من دون هذه التظاهرات والاستعراضات التي لا يمكن إلقاء الذنب في تشكيلها على الجانب الروسي، بل على مؤسساتنا نحن بالذات، وعلينا كمسافرين يمثلون ثقافة لا تعترف بالتنظيم.. وأعود لأقول، بأنه قلما كنا نعود إلى ” البيت” ( السكن الجامعي) من دون أن نصطحب أحد الطلاب العرب الباحثين عن مكان يبيتون فيه ليلة على الأقل، قبل سفرهم بالطائرة أو القطار عائدين إلى مدنهم البعيدة.
ولم يكن غريباً أن تمتلئ غرف الطلاب ” الموسكوفيين” بكثير من الأصدقاء والمعارف، بحيث لا يمر صيف من دون أن نتعرف خلاله على عدد غير قليل من أصدقاء الأصدقاء ( على مبدأ شبكات التواصل الاجتماعي في “عصرنا” الحالي)، وكان من الطريف أن يدق أحدهم باب غرفتك ليسأل عن صديق، وعندما يكتشف أنه غير موجود يسأل عنك، لأن هذا الصديق المشترك يكون قد أوصاه بأن يبيت عندك في حالة عدم وجوده.
ولك أن تتصور أحدهم يقف أمام غرفتك المزدحمة بعدد من الشباب العرب الذين يخوضون نقاشاً سياسياً بصوت عال جداً، أو المجتمعين حول طاولة الشدة ( ورق اللعب) بصخب تمتزج فيه لهجاتهم العربية المختلفة ” المطعمة” في الوقت نفسه بشتائم باللغة الروسية، ذلك أن شريكك أو خصمك يتقبل الشتيمة باللغة الروسية بصورة عادية لأنه يشعر بقرارة نفسه بأنها مجردة وليست موجهة له شخصياً… وتضاف إلى هذا المنظر ” الحضاري” سحابة كبيرة من دخان السجائر التي تذكرك بضباب لندن، لدرجة أن الشخص الداخل قد لا يلمح جميع نزلاء هذه “المضافة العربية”. وأعود للقول بأنه كم سيبدو السؤال ذكياً وفي محله تماماً، عندما يطرق أحدهم الباب ويسأل:
ـ مرحبا… الشباب عرب؟.
ويحدث أن تعتذر من ” نزلائك” وتذهب في عمل ما، لتجد عند عودتك بعض الأشخاص الجدد، وما إن تلقي السلام عليهم حتى يدعونك للجلوس، فتسري موجة من الضحك عندما يعرفون أنك ” صاحب البيت”.
وذات مرة ثارت ثائرة أحد الشباب فرمى أوراق اللعب معلناً أن لن يلعب مرة أخرى، وهمّ بالخروج، فعلا ضحك الجميع عندما سأله أحدهم: إلى أين أنت ذاهب، نحن في غرفتك يا رجل.
وأذكر أنني عدت في إحدى المرات من السفر لأجد آثار خلع باب غرفتي في السكن الجامعي، وعلى الرغم من وجود بعض الفوضى فيها، إلا أنه لم تخطر ببالي فكرة تعرضي للسرقة، وذلك انطلاقاً من مبدأ أن لا شيء ثميناً فيها لكي تسرق، وعندما أصبحت في وسط الغرفة وجدت على الطاولة رسالة قصيرة كتبها أحد أصدقائي الذين يدرسون في أوكرانيا، يعتذر فيها عن اضطراره لخلع الباب ” لأسباب موجبة”، خاصة أنه كان برفقة بعض الأصدقاء الذين حدثهم عن علاقتنا القوية التي تسمح للواحد منا أن يدخل إلى بيت صديقه كأنه داخل إلى بيته، حتى في حال غيابه … وهذا ما حدث بالفعل.
وما زلت ممتناً لصديقي الروسي سلافا الذي كان يقطن في الغرفة المجاورة، حيث كان يترك مفاتيح الـ ” دفوشكا” معي كلما سافر إلى مدينته ” نوفوسيبيرسك” معتبراً ذلك كمساهمة متواضعة منه في استقبال الضيوف والأصدقاء العرب.
وما زلت ممتناً لصديقي الروسي سلافا الذي كان يقطن في الغرفة المجاورة، حيث كان يترك مفاتيح الـ ” دفوشكا” معي كلما سافر إلى مدينته ” نوفوسيبيرسك” معتبراً ذلك كمساهمة متواضعة منه في استقبال الضيوف والأصدقاء العرب.
منقول من صفحة نادي خريجي روسيا و دول الاتحاد السوفيتي – بقلم نواف القنطار