شتيرليتس.. أعظم جاسوس روسي في ألمانيا النازية

سلام عبد الله – موسكو 

بالنسبة للروس تعد شخصية ماكس أوتّو شتيرليتس بمثابة “جيمس بوند وطني” وهو أحد أهم الشخصيات السينمائية المحببة لدى جمهور واسع من الشعب الروسي وكل من اطلع على الثقافة الروسية والسوفييتية. فلا توجد شخصية سينمائية أو درامية تضاهي بشعبيتها شخصية الجاسوس السوفييتي شتيرليتس بطل سلسلة الأفلام السوفييتية “سبعة عشرة لحظة من لحظات الربيع” الذي يحكي عن أمجاد الاستخبارات السوفيتية خلال فترة الحرب العالمية الثانية و مساهمتها الجبارة في دحر النظم النازية والفاشية في أوربا و تخليص البشرية من نيرها، قصة عن ضابط برتبة رفيعة بالقوات الخاصة الألمانية و عمل في شعبة مكافحة الجاسوسية. لكن في الواقع لم يكن ذلك الضابط (شتيرليتس) ، الذي جسد دوره الراحل فيتشيسلاف تيخونوف ، إلا مواطناً سوفيتياً قد تم تنويمه في العمق الألماني منذ زمن طويل و عاش هناك كالماني باسطورة محكمة السبك. استطاع ذلك الشخص الالتحاق بالاستخبارات الالمانية و الترقي فيها الي ان وصل لرتبة رفيعة و اصبح مقربا من راس الـ (SS ) ، سيء الذكر مولير.

في أواخر الستينيات من القرن المنصرم كلف يوري أندروبوف، الزعيم السوفييتي الراحل، الكاتب يوليان سيميونوف بكتابة عمل أدبي عن بطولات الاستخبارات السوفييتية إبان الحرب الوطنية العظمى. ومن أجل الوصول إلى الحد الأعلى من محاكاة الواقع سمح أندروبوف للكاتب السوفييتي بالاطلاع على أرشيف ووثائق بعض العاملين في الاستخبارات الخارجية خلف خطوط العدو في ألمانيا النازية وأوربا عموماُ. وذكر الكاتب أن معظم الأحداث في رواياته عن شتيرليتس هي أحداث واقعية عاشها أناس حقيقيون لكنها في الواقع عايشها عدد من الجواسيس السوفييت في ألمانيا الهتلرية. قام الكاتب بنسج حبكته الروائية من جمع السير الذاتية لعدد من العاملين في الاستخبارات السوفييتية.

ألكسندر كوروتكوف

في أحدى حلقات السلسلة الدرامية “سبعة عشرة لحظة من لحظات الربيع” يوجد وصف مختصر لشخصية شتيرليتس حيث يذكر الكاتب أن بطله كان حائزاً على لقب في بطولة مدينة برلين في رياضة التنس. إن العميل السوفييتي الوحيد الذي مارس رياضة التنس بشكل احترافي هو ألكسندر كوروتكوف، لكنه لم يحز على ألقاب بطولية رياضية نظراُ لصعوبة الجمع بين حياة العميل السري في الاستخبارات وحياة البطل الرياض وما يرافقها بقاء الرياضيين في الأضواء وتحت أنظار المجتمع وأجهزة المخابرات المعادية، ناهيك عن ما تتطلبه حياة الرياضي من تفرغ تام للتدريب والمباريات.

مهمة كوروتكوف كعميل سري بدأت من ملعب التنس كما تشير تقارير عن سيرته الذاتية عندما وقع تحت أنظار هيئة الطوارئ السوفييتية أو ما يعرف بالـ”تشيكا” في السنوات المبكرة من عمر الدولة السوفييتية. بعد فترة تم توظيفه في الـ”لوبيانكا” المركز الأشهر للاستخبارات السوفييتية، بصفة عامل مصاعد وحسب، لاحقاً تم نقله إلى قسم الشؤون الدولية بصفة كاتب وفيما بعد تم تحويله لتلقي التدريب اللازم للعمل كل عميل سري.

تلقى ألكسندر التدريب على مختلف أنواع السلاح الفردي كما أتقن اللغة الألمانية وعلى الأرجح أن كوروتكوف تحديداً كان الشخص الذي أبلغ القيادة السوفييتية في آذار 1941 بأن ألمانية النازية ستقدم لا محالة على مهاجمة الاتحاد السوفييتي. خلال تلك الأعوام ضمن ظروف صعبة جداً بسبب النشاط الكبير لأجهزة المخابرات النازية تمكن ألكسندر كوروتكوف من بناء علاقة قوية مع حركة سرية ألمانية تعمل للإطاحة بنظام النازية وتنشط في برلين ومناطق من أوربا تحت سيطرة النظام الهتلري إضافة إلى نشاطها في سويسرا أطلق عليها إسم “الجوقة الحمراء” (كما كان يحلو لعناصر الغستابو أن يسموها  Die Rote Kapelle). كانت هذه الحركة تنقل المعلومات السرية إلى السلطات السوفييتية ولبلدان أخرى.

النقيب ويلي ليمان (برايتنباخ)

في 19 حزيران عام 1941 قام عميل سري يعمل تحت الاسم الكودي برايتنباخ بموافاة القيادة العليا في الاتحاد السوفييتي بمعلومات تؤكد أن الجيش النازي يخطط لمهاجمة الاتحاد السوفييتي بعد ثلاثة أيام. تشير بعض الآراء إلى إمكانية أن يكون برايتنباخ أحد الشخصيات التي استلهمت منها شخصية شتيرليتس. تحت الاسم الكودي (برايتنباخ) كان يتخفى شخص يدعى ويلهلم ليمان والذي مثل بطلنا شتيرليتس كان ضابطاً في الغيستابو برتبة “هاوبت شتورم فوهرر” (نقيب) في الـSS  وكان جاسوساً لصالح السوفييت.

تشير مصادر مختلفة إلى أن هذا الضابط الألماني كان صاحب المبادرة للعمل مع الاتحاد السوفييتي، حيث كان بشكل واعٍ يسعى لفتح قناة للتواصل مع السوفييت قبل أن يتمكنوا من تجنيده رسمياً، لم يكن ليمان بشخصيته ليتقبل المبادئ العنصرية الفاشية للحزب النازي الأساسية. الرجل الودود والطيب القلب أصلع الرأس كان يلقب في الأوساط العسكرية النازية بـ”العم ويلي”. لم لأحد في محيطه – بما في ذلك زوجته – ليتخيل أن هذا الرجل الودود، الذي كان يعاني من أمراض في كليتيه والسكري، قد يكون عميلاً للسوفييت.

في الفترة التي سبقت الحرب كان ليمان برسل تقارير عن حجم ومدة إنتاج ألمانيا النازية للآليات والمدرعات وناقلات الجنود، وعن تطوير مواد كيميائية سامة تقوم بشل الجملة العصبية للإنسان، وعن تطوير أصناف جديدة من الوقود الاصطناعي، وعن بدء تجارب لصواريخ تعمل على الوقود السائل، عن البنية الهيكلية والأشخاص العاملين في المخابرات النازية، والعمليات الاستخباراتية التي يتم التخطيط لها في دهاليز الغيستابو لملاحقة الجواسيس. يشار إلى أن ليمان كان قد وضع الوثائق التي تدل على نية الألمان مهاجمة الاتحاد السوفييتي في جيب سري أخطه في قبعته ثم بادلها بواحدة شبيهة مع أحد الجواسيس السوفييت في أحد مقاهي برلين.

تمكن النازيون من كشف العميل السري الجريء ويلهلم ليمان عام 1942، في صدمة كبيرة لهينريك هيملر شخصياً. حيث عمل ليمان لمدة 13 عاماً في الغيستابو نقل أهم وأخطر المعلومات للسوفييت دون أن يقع في موضع الشك ولو لمرة واحدة. كان ذلك بحد ذاته وصمة عار للنازيين لدرجة أن الوثائق المتعلقة بقضية ليمان أتلفت خشية وصولها للفوهرر، وتم إعدامه رمياً بالرصاص وإعلان مقتله فداءً للرايخ الثالث. من بين جميع العملاء السريين السوفييت الذين عملوا في ألمانيا النازية كان ليمان الأكثر شبهاُ بشخصية شتيرليتس من لكونه ضابطاً في الـSS  المقرب من مركز صنع القرار في ألمانيا النازية والمزروع في قلب الرايخ الثالث

أنتولي غوريفيتش

إحدى الشخصيات التي استوحيت سيرتها الذاتية شخصية الجاسوس السوفييتي الأشهر في السينما الوطنية كان أنتولي غوريفيتش. انضم غولايفيتش وهو شاب إلى صفوف المقاومة الشعبية في إسبانيا ضد المد الفاشي وبعد عودته إلى الوطن عرض عليه العمل كعميل سري لصالح الاستخبارات الخارجية، كان تخصصه التشفير ومحطات الراديو حيث تلقى التدريب اللازم في هذا المجال، وأرسل إلى بروكسل تحت اسم فينسانت سييرا وبعد فترة انضم إلى “الكابيلا الحمراء” أو “الجوقة الحمراء” بالاسم الحركي “Kent”…في بلجيكا تزوج أنتولي من ابنة رجل أعمال ثري أعطاه قسطاً كبيراُ من ثروته.

في 1941كشف أمر الجاسوس السوفييتي واضطر للهرب مع زوجته إلى مرسيليا في فرنسا حيث ألقي القبض عليهما، عند ذلك فقط عرفت مارغريت أن زوجها عميل استخبارات وبأنه روسي الأصل قبيل ذلك في نفس العام كان غوريفتش هو من أبلغ القيادة السوفييتية بتحركات لدى النازيين لشن هجوم في القفقاز وستالينغراد، وبفضل هذه المعلومات تحديداً أنقذت آلاف الأرواح من الموت حيث استعد الجيش الأحمر حينها لصد الهجوم النازي.

تمكن الجاسوس السوفييتي من النجاة رغم أسره…وعاد إلى وطنه، لكن الظروف الغامضة لعودته وضعته موضع الشك لدى السلطات السوفييتية، في عام 1991 تمت تبرئته من التهم التي وجهت له. عاش أنتولي غوريفتش في روسيا وتوفي 2009 عن عمر يناهز 96 سنة.

نورمان بورودين

نورمان بورودين ابن للجاسوس والدبلوماسي سوفييتي ميخائيل بورودين نشأ في عالة أعدته ليكون جاسوساً من الطراز الرفيع. ولد في الولايات المتحدة وعاش طفولته ومراهقته فيها. عند عودة العائلة إلى الاتحاد السوفييتي كان نورمان يشعر بأنه أجنبي أكثر من كونه روسياً، حيث كانت لغته الأولى هي الانكليزية. بدأ بورودين الابن نشاطه الجاسوسي في سن مبكرة في ال19 من عمره كان محسوباً في عداد العاملين في مفوضية الشعب للشؤون الداخلية “NKVD” في قسم الاستخبارات الخارجية، في سن الـ25 كلف بمهمة في الولايات المتحدة حيث تم إرساله بصفة مهاجر غير شرعي، في سنوات الحرب الوطنية العظمى أرسل نورمان بورودين إلى برلين حيث تمكن نورمان من تشكيل شبكة تجسس فعالة…خلال سنوات خدمته في ألمانيا خلف خطوط العدو كان بورودين يعمل بصفته متطوع أمريكي يعمل في صفوف الصليب الأحمر السويسري.

في روسيا وبعد سنوات طويلة من الخدمة تعرف يوليان سيميونوف على نورمان الذي كان إلى جانب مهنته في الـKGB  كان يعمل في المهنة المحببة لديه ألا وهي الصحافة. عندها كان الكاتب يستمع إلى بعض القصص التي سردها له نورمان، استقى سيميونوف من شخصية بورودين أهم ملامح شخصية بطله شتيرليتس الهدوء، رباطة الجأش، الحضور القوي والكاريزما إضافة إلى روح الفكاهة كانت كلها مواصفات بطلنا شتيرليتس التي تحلى بها الجاسوس العبقري نورمان بورودين، الذي توفي عام 1974.

تعليقات

أضف تعليق

شاهد أيضاً

ما هي قصة الروبل الروسي التاريخية؟

أحمد فايز – المرشد السياحي العربي في موسكو عاش الروبل الروسي و عاصر أباطرة ورؤساء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: المحتوى محمي
%d مدونون معجبون بهذه: